كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا شك أن الإخلاص والتقوى والخشية هي غاية ما يتمنى الإنسان أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وإخبار اللّه تعالى بثبوت التقوى لمن عظّم تلك الشعائر من شأنه أن يحرك الناس، ويبعثهم على الاهتمام بأمرها، والعناية بتخيرها، والفرح بسوقها. ويؤكد هذا المعنى إضافة هذه الشعائر إليه تعالى.
روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب أي حلقة من ذهب.
وروي أن عمر رضي اللّه عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وكان قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال: بل أهدها، وكان ابن عمر رضي اللّه عنهما يسوق البدن مجلّلة بالقباطي، فيتصدق بلحومها وجلالها.
قال اللّه تعالى: {لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
{مَنافِعُ} الظاهر أنّ المراد بها المنافع الدنيوية من الركوب والدّر والصوف والوبر، ليكون قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} مفيدا معنى جديدا. فإنّ الخير ظاهر في ثواب الآخرة، فيكون في الأنعام التي تساق هديا إلى الكعبة منافع دنيوية ومنافع أخروية.
أما الأجل المسمى فقد اختلف في معناه. فقال الإمام الشافعي: إنّه وقت نحرها، وهو مروي عن عطاء.
وقال الحنفية: إنه وقت تعيينها وتسميتها هديا، كما روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقتادة.
والمحل بالكسر من حلّ الشيء يحلّ بالكسر حلولا إذا وجب، أو انتهى أجله، وفي الحديث: «حلّت له شفاعتي» وجبت. ويقال: حل الدين: انتهى أجله، فالمحل في الآية مكان الحلول، أي المكان الذي ينتهي فيه أجل تلك الأنعام، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.
ومعنى أن محلها إلى البيت العتيق أنّ المكان الذي تذبح فيه الهدايا منته إلى البيت العتيق، ومتصل به، إذ هو الحرم، ولا شك أن الأمر كذلك، فإنّه ليس نفي البيت، ولا ما حوله من المسجد، إذ لا يحل الذبح فيهما، والمحل بهذا المعنى هو المراد في الآيات الأخرى، منها قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله جلّ شأنه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وهو المعين في قوله عزّ اسمه: {هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا، بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين، وقيل: إنّ المراد بالمحل نفس الحلول بمعنى الذبح، وقيل أيضا: إنّ المحل زمان الحلول. وعلى هذين القولين يكون محلها معطوفا على منافع، ويكون قوله تعالى: {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} حالا من الضمير في محلها. والتقدير لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الآخروي، وهو وجوب نحرها، أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة، حيث جعل وقت النحر نفسه منفعة، والظاهر الأول.
ما في الآية من الأحكام وأقوال العلماء في ذلك:
قد علمت أنّ الشافعية فسّروا الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي، وعلى هذا قالوا بجواز الانتفاع بالشعائر بعد سوقها حتى تنحر، وقالوا أيضا: إنما يجوز الانتفاع إذا كانت هناك حاجة تدعو إليه، ولو لم تصل لدرجة الاضطرار.
أما الانتفاع بغير حاجة فلا يجوز، فلو احتاج لشيء من لبنها ولو لم يصل إلى درجة المخمصة فله أن يشرب منه، وكذلك إذا كان يعلم أنّ صوفها أو وبرها يضرها، فله أن يجزّه وينتفع به، وليس عليه قيمته للفقراء، قالوا: والأولى أن يتصدق به عليهم. هذا هو المشهور من مذهبهم، وعندهم رواية أخرى عن الإمام الشافعي أنه لا يجوز الانتفاع إلا للمضطر.
أما الحنفية فإنهم يفسّرون الأجل المسمى في الآية بوقت سوقها. فلا يجيزون الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار.
وقال بعضهم: إنه يجوز الانتفاع بها مطلقا في حالتي الاختيار والاضطرار.
ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر القول بوجوب الركوب.
ولمن أجاز مطلقا حجج:
1- قد أثبتت الآية منافع في الشعائر، وأباحت الانتفاع بها، وهي لا تكون شعائر إلا بعد سوقها هدايا، وتعيينها لذلك، فيلزم أن يكون الانتفاع بها بعد السوق أيضا.
2- ثمّ إنّ الآية لم تقيّد جواز الانتفاع بحالة دون أخرى، فالتقييد بحالة الاضطرار كما يقول الحنفية، أو بالحاجة كما هو مشهور مذهب الشافعية زيادة ليست في الآية.
3- ثم إنّ الأحاديث الواردة في ذلك مطلقة أيضا؛ فقد روي عن أنس رضي اللّه عنه أنه قال: رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلا يسوق بدنة، فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها» قال: إنّها بدنة قال: «اركبها» ثلاثا. متفق عليه.
وروي عن جابر رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول- في البدنة-: «اركبها بالمعروف».
فالحديثان مطلقان كالآية فيجوز الانتفاع بالبدنة على كل حال، وإذا فلا يكون فرق بين البدنة والناقة التي لم يسقها، فليس عليه فيما ينتفع به من ذلك ضمان.
حجة الشافعية: استدلّ الشافعية بما أورده المجيزون في دليلهم الأول، وبأنّ إطلاق الآية يجب أن يقيّد بما ورد من الأحاديث التي تفيد أنّ الإباحة تثبت للحاجة: من ذلك: ما رواه أحمد والنسائي عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد أجهده المشي فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها، ولو كانت بدنة».
وروي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا».
فهذان الحديثان يدلان على أنّ الإباحة إنما كانت لمسيس الحاجة إلى الانتفاع. قالوا: وعلى هذا يجب أن تحمل الآية والأحاديث المطلقة جمعا بين الأدلة.
ثم إنه ليس في كل ذلك دليل على وجوب ضمان شيء من منافع الهدي، فلا يضمن المنتفع شيئا منها للفقراء، نعم إذا كان الركوب ينقص قيمتها نقصا بينا فعليه ضمان هذا النقص.
حجة الحنفية: قال الحنفية ينبغي أن تحمّل الشعائر في الآية على الأنعام التي يراد سوقها للكعبة، لا على البدن التي سيقت بالفعل، فهي مجاز بقرينة إيقاع التعظيم عليها، فإنّ الآية ندبت إلى تعظيمها. ولا شك أنّ من تعظيمها تخيّرها سمينة حسنة، وذلك إنما يكون قبل سوقها وتعيينها هديا وهذه الأنعام التي تكون هديا بالسوق هي التي أباح اللّه الانتفاع بها إلى الأجل المسمى.
ثم إنه ينبغي تفسير الأجل المسمى بوقت سوقها لا وقت نحرها، لأنّ صاحبها قد جعلها بالسوق خالصة للّه تعالى، فقد خرجت عن ملكه بذلك فلا يجوز له حينئذ أن ينتفع بشيء منها إلا عند الضرورة، وما انتفع به كان حقا للفقراء يجب أن يعوضهم منه مقدار قيمته.
يشهد لهذا ما ورد من الأحاديث التي قيّدت جواز الانتفاع بحالة الضرورة، فيجب أن يحمل غيرها عليها جمعا بين الأدلة. من ذلك ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر: أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا».
فمن هذا يعلم أن الجواز خاصّ بحالة الضرورة، فإنّ الإلجاء إلى ركوبها هو الاضطرار إليه. وقالوا أيضا: إن ركوبها ينافي تعظيمها، إذ في الركوب امتهان واستهانة ظاهرة، مع أنّ تعظيمها مطلوب بنفس الآية، وإذا فلا يركبها إلا إذا ألجئ.
حجة القائلين بالوجوب: استدل القائلون بالوجوب بظاهر الأمر بالركوب فيما سبق من الأحاديث. وقالوا أيضا: إنّ في ركوبه مخالفة لما كان يصنعه أهل الجاهلية من مجانبة البحيرة والسائبة والوصيلة. وهو مردود بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هديه، ولم يركبه غيره، ولم يأمر الناس جميعا بركوب هداياهم، إلا ذلك المضطر، كما تقدم، فدل ذلك على عدم الوجوب.
أما المالكية فالمشهور من مذهبهم أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ولبنها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها، والوجه فيه ظاهر، ومذهبهم على هذا قريب من مذهب الحنفية.
وقال النووي من الشافعية والزيلعي من الحنفية: إنّ الإمام مالكا يقول بجواز ركوب البدن، ولو من غير حاجة، فلو صحّ هذا فالحجج المتقدمة ناطقة بخلافه.
هذا والظاهر من قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أنّ جميع الهدايا يجب أن تذبح في هذا المحل، سواء في ذلك ما تعلّق وجوبه بالإحرام، كما في جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم الإحصار، وما التزمه الإنسان كما في الدم الذي يتطوّع به إلى الحرم، أو ينذره كذلك.
قال اللّه تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)}.
المنسك: بفتح السين وكسرها: مفعل من النسك، بمعنى العبادة، فيصح أن يراد به النسك نفسه، ويصح أن يراد به مكان النسك أو زمانه، وعلى كل حال فالظاهر أنّ المراد بالنسك هنا عبادة خاصة، وهي الذبح تقرّبا إلى اللّه تعالى.
{فَلَهُ أَسْلِمُوا} الإسلام للّه الإخلاص له في الطاعة، وامتثال أوامره ونواهيه.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} الإخبات الخشوع، وقيل: التواضع. وقيل: الاطمئنان: مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض، وهي معان متقاربة ويصحّ أن يكون ما ذكر في الآية بعده تفسيرا له.
ولا يخفى عليك أنّ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا} معطوف على قوله سبحانه: {لَكُمْ فِيها مَنافِعُ} وأنّ تقديم المفعول فيه لإفادة الحصر.
والمعنى: أنّ اللّه جلّ شأنه قد شرع نسك الذبح لجميع الأمم التي خلت من قبل، يتقربون به إليه تعالى، ويذكرون اسمه الكريم عند الشروع فيه، وأن ذلك ليس خاصّا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ببعض الأمم الأولى دون البعض، أو المعنى أنه تعالى قد خصص لكل أمة من الأمم مكانا أو زمنا يذبحون فيه، ولعل سرّ الإخبار بشرع هذا النسك لجميع الأمم من قبل هو تحريك النفوس، وبعثها إلى المسارعة إلى هذا النوع من البر، والاهتمام بهذه القربة، حيث إنّها قربة قد وردت بها الشرائع الأولى، وتتابعت عليها.
وفي هذا الإخبار أيضا إشعار بأنّ أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، والذين كانوا يخلطون في التسمية على ذبائحهم- إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإنّ شرائع اللّه كلها قد أجمعت على أنّ التقرب بالذبح إنما يكون للّه وحده، وأنّ الشروع في ذلك إنما يكون باسمه وحده، إذ ليس للناس إلا إله واحد، وهو الذي رزقهم، وشرع لهم، وكلّفهم، فليس لهم أن يميلوا بالعبادة إلى غيره، فقوله تعالى: {فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر، لأنّ تفرده تعالى بالألوهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح غير اسمه، وإنما قيل: {فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} ولم يقل فإلهكم واحد لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته، كما أنه واحد في ألوهيته.
وقوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} مرتّب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله، فإنّه متى كان الإله واحدا فقد وجب تخصيصه بالعبادة والإذعان له في جميع الأحكام، وإفادة التخصيص ظاهرة من تقديم المعمول.
وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} فيه توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما كان متوجها إلى الناس، فاللّه سبحانه يأمر نبيّه أن يبلغ الناس أنّ من أذعن منهم للّه، وأخلص له العمل والاعتقاد، فإنه يكون له أحسن الجزاء.
والسرّ في تحويل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم هو أنّ مقام الأمر والنهي يناسبه أن يتجلّى الإله على العباد بعظمة الألوهية وقهرها وسلطانها، فيوجه أوامره إليهم كأنه يخاطبهم من غير وسيط، ليكون ذلك أدخل للهيبة في قلوبهم، وأبعث على خشوعهم وانقيادهم.
فلما انتهى أمر التكليف عطف الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يبلّغهم وعد اللّه للعاملين المخلصين، إذ إنّ عملهم بذلك يكفي فيه أن يحدثهم به النبيّ المعصوم الذي هو الواسطة بينهم وبين خالقهم.
ويؤخذ من هذه الآية: وجوب الذكر على الذبيحة حيث كان هو المقصود من الذبح الذي هو واجب، ووجوب اعتقاد أنّ اللّه واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص للّه في العمل.
قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}.
وصف اللّه في هذه الآية المخبتين بأربع صفات تجد بعضها مرتبا على بعض أحسن ترتيب:
الأولى: الخوف والخشوع عند ذكر اللّه.
والثانية: الصبر على الآلام والمشقات.
والثالثة: إقامة الصلاة.
والرابعة: الإنفاق مما رزقهم اللّه.
فهؤلاء المخبتون إذا سمعوا ذكر اللّه تحرّكت قلوبهم، وخفقت لما وقع فيها من الهيبة والخوف من عقاب اللّه وانتقامه، ولا شك أنّ هذا الخوف يحملهم على الرضا بقضاء اللّه تعالى، والصبر على ما يريده لهم من الآلام والشدائد، سواء في ذلك ما يكون في التكاليف وأنواع التعبدات، وما يلاقون من المشقات في أسفارهم لطاعة اللّه كما في الحج، وكل ما يصابون به في أنفسهم وأموالهم، ويحملهم كذلك على إحسان الأعمال، والقيام بما كلفهم اللّه إياه حقّ القيام.
والإنفاق: قيل: إنّ المراد به الزكاة المفروضة، وقيل: إنه صدقة التطوع، وقيل: هو عام يشمل النوعين جميعا، وقد سبق لك شيء من هذا في أكثر من موضع، كما أنّه سبق لك في مثل هذه الآية بيان السر في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين سائر التكاليف، وأنّ الصلاة أهمّ التكاليف البدنية، كما أنّ الزكاة أهمّ التكاليف المالية: لما يترتب عليهما من صلاح النفوس واعتدالها، وسد حاجات الأمة وتقويم فقرأئها وضعفائها.
وينبغي أن تعلم أنّ قوله تعالى: {ومِمَا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} معطوف على {المقيمي الصلاة} باعتبار معناه. أي والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم.
قد يقال: إنّ وصف المخبتين في هذه الآية بأنّهم الذين يجلون عند ذكر اللّه يخالف ما وصفوا به في قوله عزّ اسمه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] فما هذا، وكيف يكون التوفيق بين آيتين إحداهما تثبت أنّ ذكر اللّه موجب للخوف والوجل، والأخرى تصرّح بأن ذكر اللّه يوجب سكون القلوب واطمئنانها، وزوال ما قد يعتريها من خوف وفزع {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
والجواب أن الاطمئنان والوجل أمران يجدهما المؤمن المتقي، ويشعر بهما في قلبه في حالتين متمايزتين، ولسببين مختلفين، فهو إذا استحضر وعيد اللّه امتلأت نفسه هيبة، واقشعر جلده، ووجف قلبه، وخاف عذاب الآخرة، ثم إذا لمح جانب الوعد الكريم، واستحضر رحمة اللّه وسعة عفوه اطمأن قلبه، وسكن روعه، وصدق قول اللّه تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فالحالة الثانية حالة الوعد والأولى حالة الوعيد، وأيضا فإنّ المؤمن كثيرا ما تصادفه في هذا الدنيا عقبات وشدائد، إذا عرضت لضعيف الإيمان واهن العزيمة اضطرب لها قلبه، وانشعب منها فؤاده، واستولى عليه الفزع والهلع. أما المؤمن الصادق فإنه يرجع بها إلى اللّه، ويستعين عليها بذكر اللّه، فيرتاح لكل ما يجري به قضاؤه وقدره، فهذه حالة السكون والاطمئنان إلى ذكر اللّه.